فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال قتادة: معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16].
وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل فيهم {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 167] وأعلموا أن الله يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمنًا والجُبن جُرأة.
وقيل: يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير.
وقرأ الحسن: {بين المر}، وبتشديد الراء من غير همزة.
وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة.
و{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ويجزيكم بأعمالكم.
قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا: يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا؟
قال: «إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه».
والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله: بين إصبعين: بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة.
قال الشاعر:
صلاة وتسبيح والخطأ نائل ** وذو رحم تناله منك إصبع

أي أثر حسن.
وقال آخر:
مَنْ يجعل الله عليه اصبعًا ** في الشر أو في الخير يلقه معًا

فالإصبع أيضًا في اللغة الإصبع.
فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ** للغدر خائنة مغل الإصبع

. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} يعني أجيبوا الله والرسول قال كعب ابن سعد الغنوي.
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وإجابة الله تعالى هي طاعة أمره، وإنما خرجت عن هذا اللفظ لأنها في مقابلة الدعاء إليها فصارت إجابة لها.
{إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} فيه سبعة أقاويل:
أحدها: إذا دعاكم إلى الإيمان، قاله السدي.
والثاني: إذا دعاكم إلى الحق، قاله مجاهد.
والثالث: إذا دعاكم إلى ما في القرآن، قاله قتادة.
والرابع: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو، قاله ابن إسحاق.
والخامس: إذا دعاكم إلى ما فيه دوام حياتكم في الآخرة، ذكره علي بن عيسى.
والسادس: إذا دعاكم إلى ما فيه إحياء أمركم في الدنيا، قاله الفراء.
والسابع: أنه على عموم الدعاء فيما أمرهم به.
روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبيّ وهو قائم يصلي فصرخ به قال: «يَا أُبيّ» قال فعجل في صلاته، ثم جاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مَنَعَكَ إذْ دَعَوتُكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟» قال: يا رسول الله كنت أصلي، فقال: «أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ {اسْتَجِيْبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}» قال بلى يا رسول الله، لا أعود.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فيه لأهل التأويل سبعة أقاويل:
أحدها: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير والضحاك.
والثاني: يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل، قاله مجاهد.
والثالث: يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه، قاله السدي.
والرابع: معناه أنه قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفى عليه شيء من سره أو جهره فصار أقرب من حبل الوريد، وهذا تحذير شديد، قاله قتادة.
والخامس: معناه يفرق بين المرء وقلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت. ذكره علي بن عيسى.
والسادس: يحول بين المرء وما يتمناه بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر، حكاه ابن الأنباري.
والسابع: يحول بين المرء وما يوقعه في قلبه من رعب خوف أو قوة وأمن، فيأمن المؤمن من خوفه، ويخاف الكافر عذابه. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} الآية، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف، و{استجيبوا} بمعنى أجيبوا، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر: [الطويل]
وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النِّدا ** فلم يستجبْه عند ذاك مجيب

وقوله: {لما يحييكم} قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام، وقيل {لما يحييكم} معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت، ويحيي أيضًا كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة، وقال النقاش: المراد إذا دعاكم للشهادة.
قال القاضي أبو محمد: فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة، وقوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} يحتمل وجوهًا، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال: {واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه} بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات، ويلتئم مع هذا التأويل قوله: {وأنه إليه تحشرون}، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر، ومنها أن يقصد بقوله: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه.
قال القاضي أبو محمد: فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16]، حكي هذا التأويل عن قتادة، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوى على طاعة إلا بالله، وقال المفسرون في ذلك أقوالًا هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا، وقرأ ابن أبي إسحاق {بين المِرء} بكسر الميم ذكره أبو حاتم، قال أبو الفتح: وقرأ الحسن والزبيدي {بين المَرِّ} بفتح الميم وشد الراء المكسورة، و{تحشرون} أي تبعثون يوم القيامة، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما سمعت فيما يوحى إلي {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فقال أبيّ: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبدًا إلا أجبتك، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}
قوله تعالى: {استجيبوا} أي: أجيبوا.
قوله تعالى: {إذا دعاكم} يعني: الرسول {لما يحييكم} وفيه ستة أقوال:
أحدها: أن الذي يحييكم كلُّ ما يدعو الرسولُ إليه، وهو معنى قول أبي صالح عن ابن عباس.
وفي أفراد البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلىّ قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيتُه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: «ألم يقل الله: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟» قلت: بلى، ولا أعود إن شاء الله.
والثاني: أنه الحق، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والثالث: أنه الإيمان، رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال السدي.
والرابع: أنه اتِّباع القرآن، قاله قتادة، وابن زيد.
والخامس: أنه الجهاد، قاله ابن إسحاق.
وقال ابن قتيبة: هو الجهاد الذي يحيي دينَهم ويعليهم.
والسادس: أنه إحياء أمورهم، قاله الفراء.
فيخرَّج في إحيائهم خمسة أقوال:
أحدها: أنه إصلاح أمورهم في الدنيا والآخرة.
والثاني: بقاء الذكر الجميل لهم في الدنيا، وحياة الأبد في الآخرة.
والثالث: أنه دوام نعيمهم في الآخرة.
والرابع: أنه كونهم مؤمنين، لأن الكافر كالميِّت.
والخامس: أنه يحييهم بعد موتهم، وهو على قول من قال هو الجهاد، لأن الشهداءَ أحياءٌ، ولأن الجهاد يُعِزُّهم بعد ذُلِّهم، فكأنَّهم صاروا به أحياءً.
قوله تعالى: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} وفيه عشرة أقوال:
أحدها: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.
والثاني: يحول بين المؤمن وبين معصيته، وبين الكافر وبين طاعته، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء.
والثالث: يحول بين المرء وقلبه حتى لا يتركه يعقل، قاله مجاهد.
قال ابن الأنباري: المعنى: يحول بين المرء وعقله، فبادروا الأعمال، فانكم لا تأمنون زوال العقول، فتحصُلون على ما قدمتم.
والرابع: أن المعنى: هو قريب من المرء، لا يخفى عليه شيء من سرِّه، كقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [ق: 16] وهذا معنى قول قتادة.
والخامس: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع إيمانًا ولا كفرًا إلا بإذنه، قاله السدي.
والسادس: يحول بين المرء وبين هواه، ذكره ابن قتيبة.
والسابع: يحول بين المرء وبين ما يتمنَّى بقلبه من طول العمر والنَّصر وغيره.
والثامن: يحول بين المرء وقلبه بالموت، فبادروا الأعمال قبل وقوعه.
والتاسع: يحول بين المرء وقلبه بعلمه، فلا يضمر العبد شيئًا في نفسه إلا والله عالم به، لا يقدر على تغييبه عنه.
والعاشر: يحول بين ما يوقعه في قلبه من خوف أو أمن، فيأمن بعد خوفه، ويخاف بعد أمنه، ذكر معنى هذه الأقوال ابن الأنباري.
وحكى الزجاج: أنهم لما فكَّروا في كثرة عدوِّهم وقلة عددهم، فدخل الخوف قلوبهم، أعلمهم الله تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدله بالخوفِ الأمنَ، ويبدل عدوَّهُ بالقوَّةِ الضعفَ، وقد أعلمتْ هذه الآية أن الله تعالى هو المقلِّب للقلوب، المتصرِّف فيها.
قوله تعالى: {وأنه إليه تحشرون} أي: للجزاء على أعمالكم. اهـ.